انتشر حساب الجُمَّل بشكل كبير في الآونة الأخيرة، فما هي حقيقة هذا الحساب، وهل يجوز إقحامه في كتاب الله تعالى؟ لنقرأ.... |
لقد تأملتُ هذا الحساب طويلاً وعلى مدى أكثر من عشرين عاماً وكنتُ دائماً أتوجه بسؤال منذ المرة الأولى التي تعرفتُ فيها على هذا الحساب: ما هو الأساس العلمي لهذا الحساب، بعبارة أخرى من أين جاء هذا الترقيم للأحرف العربية؟ الحقيقة حتى هذه اللحظة لم أجد جواباً على ذلك إلا قولهم بأنه حساب قديم ومنهم من يعتقد أنه ذو أصول إلهية!
تاريخ هذا العلم
هو حساب قديم ناتج عن حاجة البشر إلى التعبير عن الحروف بالأرقام، فكانوا يعطون لكل حرف من حروف اللغة رقماً خاصاُ به، ويختلف هذا الرقم من حضارة لأخرى. فحرف الألف رقمه 1 وحرف الباء رقمه 2 وحرف الجيم رقمه 3 وحرف الدال رقمه 4 وهكذا. وقد كان هذا الحساب مستخدماً من قبل اليهود بكثرة، ثم من قبل العرب في التأريخ لبعض الأحداث بدلاً من كتابة التاريخ يكتبون كلمات لو أبدلنا كل حرف بقيمته وجدنا ذلك التاريخ.
ولكن الخطير في هذا الحساب هو محاولة بعض الباحثين إقحامه في القرآن الكريم، حتى يبدو وكأن الله تعالى رتب كلمات كتابه وحروفه وآياته وسوره بناء على هذا الحساب، وهذا منهج خاطئ في التفكير. والحقيقة أنني لم أقدم على كتابة هذه المقالة إلا بعد أن تأكدتُ مئة بالمئة أن هذا الحساب لا أساس له، وأن الأمثلة الغزيرة التي يقدمها بعض الباحثين في هذا الحساب وهي تعد بعشرات الآلاف جميعها جاءت بالمصادفة!! وسوف نثبت ذلك إن شاء الله في السطور الآتية.
دعوة لعدم تضييع الوقت
لقد اطلعتُ على مئات الأمثلة التي يحاول أصحابها إثبات وجود بعض أنواع التراميز القديمة مثل ما يسمى بحساب الجمل، وأقول من جديد إن هذا الحساب لا يستند إلى أي أساس علمي أو شرعي، بل هو موجود قبل القرآن بمئات السنين ويختلف من حضارة لأخرى، ولذلك لا يجوز لنا أن نقحم في كتاب الله تعالى حسابات من اصطلاح البشر لأن هذه الاصطلاحات تختلف من شعب لآخر. ولكنني أدعو جميع الإخوة الباحثين لاستنباط الأعداد الصحيحة من القرآن لآن القرآن هو الأصل وله السبق في كل شيء.
أهم عيوب أبحاث حساب الجُمَّل
1- إن أهم عيوب أبحاث حساب الجمّل أنه لا يوجد منهج ثابت في أي بحث حتى الآن، وهذا الأمر طبيعي لأن الباحث لو حاول اتباع منهج ثابت وعلمي في حساب الجمل، ببساطة فإنه لن يحصل على شيء! لأن هذا الحساب لا يقوم على شيء! وجميع النتائج التي وصل إليها الباحثون في هذا النوع من أنواع الحساب مضطربة وغير مضطردة، أي لا توجد قاعدة علمية ثابتة.
فتجد أحدهم يسوق مئة مثال ولا تكاد تجد مثالين متطابقين من حيث المنهج، فهو يجمع الحروف في المرة الأولى، وفي المثال الثاني يجمع أرقام السور، وفي المثال الثالث يجمع أرقام الآيات مثلاً، وفي الرابع يعدّ الكلمات وفي الخامس يعد السور أو الآيات وفي السادس يجمع أرقام السور مع أرقام الآيات وفي السابع يحصي ترتيب الكلمات وهكذا... والسؤال: لماذا لا يجمع أرقام السور دائماً؟ لماذا لا يجمع أرقام الآيات دائماً؟ ولماذا لا يتبع منهجاً ثابتاً؟ إن هذا الاضطراب في المنهج وعدم الثبات هو أكبر دليل على أن هذا الحساب خاطئ، والله تعالى أعلم.
2- هنالك خلل في هذا الحساب وهو أنه لا توجد له قاعدة للترقيم، فلماذا يأتي حرف الألف ومن ثم حرف الباء ومن ثم حرف الجيم وفق قاعدة أبجد هوّز؟ يجب أن يكون لدينا إجابات منطقية، لأن الهدف من الإعجاز الرقمي هو إقناع الملحدين بصدق القرآن، فكيف نقنعهم بشيء لا أساس له؟
3- حتى الآن وعلى الرغم من ملايين المحاولات في حساب الجمل لا توجد نتيجة واحدة إعجازية أو يمكن قبولها على أنها تمثل معجزة للقرآن. مع العلم أن بعض الباحثين صنع برنامجاً يمكن من خلاله إدخال أي كلمة أو جملة أو نص قرآني ويقوم هذا البرنامج بحساب قيمة هذا النص أو الكلمة وفقاً لحساب الجمل، ومع هذا العمل الحاسوبي يقوم كل باحث بآلاف التجارب، وإذا قدرنا عدد الباحثين في العالم بألف باحث على الأقل فإنه يكون لدينا ملايين التجارب، وهنا أتساءل: ملايين التجارب يتم القيام بها ولا توجد نتيجة واحدة صحيحة أو إعجازية، فهل نبقى متمسكين بهذا الحساب!!
حديث ضعيف
يحتج أصحاب حساب الجمل بحديث ضعيف ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعندما نقول حديثاً ضعيفاً فهذا يعني أنه يغلب عليه أنه غير صحيح، مع احتمال أن يكون صحيحاً، ولذلك سنناقش هذا الحديث لنحدد مدى ترجيح صحة هذا الحديث، لأن الله تعالى كما أودع في كتابه براهين مادية تثبت أن القرآن كلام الله، كذلك أودع في كلام حبيبه صلى الله عليه وسلم براهين علمية ومنطقية تثبت صدق كلام النبي، وإذا وجدنا الحديث متناقضاً فهذا يعني أنه غير صحيح. لأن النبي لا ينطق عن الهوى بل كل كلمة نطق بها هي وحي من الله تعالى، وقد حدد لنا الله المنهج الصحيح في التفريق بين المصدر الإلهي والمصدر البشري بقوله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء: 82].
يقول الإمام الكبير ابن كثير رحمه الله في تفسيره للحروف المقطعة (الم): "وأما من زعم أنها - أي الحروف المقطعة- دالة على معرفة المُدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره، وقد ورد حديث ضعيف وهو مع ذلك أدلّ على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار". وملخص هذا الحديث الضعيف أن اليهود سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قوله تعالى في بداية سورة البقرة (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 1-2]. فقالوا له إن مدة هذا الدين هي 71 سنة لأن الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون 0وهذه قيم الحروف "الم" في حساب الجمل)، وقالوا كيف تدخلون في دين مدته 71 سنة؟
فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هل مع هذا غيره قال نعم: (المص)، فحسبوها على حساب الجمل فكانت 131 سنة، فقالوا هل مع هذا غيره فقال: (الر) فقالوا هذا أكبر فهذه الحروف تساوي في حساب الجمل 231 .... ثم قالوا لقد تشابه علينا أمره.
يقول ابن كثير عن راوي هذا الحديث إنه لا يُحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحاً أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر أي الحروف المقطعة [1]. ويمكن أن أطرح سؤالاً:
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف مدة هذا الدين، وكثير من الناس سألوه عن يوم القيامة فنزلت عليه آيات كثيرة تؤكد أنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، فكيف يوافقهم النبي على حساباتهم أن الحروف المقطعة بحساب الجمل هي مدة هذا الدين؟ المنطق يفرض في هذا الموقف أن يرد عليهم بقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 187].
ومن غير المعقول أن النبي الأعظم يوافق اليهود على حسابهم ليوم القيامة، لأن الذي يقرأ هذا الحديث يفهم منه موافقة النبي على أن الحروف المقطعة كأنما نزلت لتحديد يوم القيامة، وهذا ما فهمه أحد شياطين الإنس وهو الدكتور رشاد خليفة عندما أسرع في حساب الحروف المقطعة في أوائل السور وفق حساب الجمّل، فكان مجموع الحروف بعد إبدال كل حرف بقيمته هو 1709 وبما أن هذا العدد ليس من مضاعفات الرقم 19، أضاف واحداً ليصبح العدد 1710 وهو موعد قيام الساعة بالتاريخ الهجري، ولكنه لم يذكر لنا من أين جاء بهذا الواحد الإضافي؟!!
ويمكن القول إن معظم علمائنا لا يقتنعون بحساب الجُمَّل ومنهم الدكتور يوسف القرضاوي حيث يقول عن هذا الحديث الذي يستند إليه أصحاب هذا الحساب:
"هذه القصة من الناحية العلمية غير ثابتة، ولم تُروَ بسند صحيح أو حسن، بل بإسناد ضعيف لا يحتج به، ضعفه الحافظ ابن كثير في تفسيره (تفسير القرآن العظيم 1/38) والسيوطي في الدر المنثور (الدر المنثور 1/2) والشوكاني في فتح القدير (فتح القدير 1/31)، وأحمد شاكر في تخريج تفسير الطبري (تفسير الطبري 1/218، مطبعة دار المعارف). فسقط إذن الاحتجاج بها، إذ لا يحتج بضعيف عند أهل العلم.
يتابع الدكتور القرضاوي: حساب الجمل لا يقوم على أساس منطقي: ثم إن حساب الجمل نفسه مجرد اصطلاح من جماعة من الناس، ولكنه اصطلاح تحكمي محض، لا يقوم على منطق من عقل أو علم. فمن الذي رتب الحروف على هذا النحو: ا ب جـ د هـ و ز ح ط ي ك ل م ن س ع ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ؟ ولماذا لم تترتب هكذا: ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز إلخ؟ أو تترتب على أي نحو آخر؟
ومن الذي جعل للألف رقم (1) والباء رقم (2) وهكذا آحادًا إلى حرف ط، ثم أعطى للحرف (ي) رقم (20) وللحرف ك (30) وهكذا الزيادة بالعشرات إلى الحرف الذي يعادل (100) وبعده تكون الزيادة بالمئات. لماذا لم تكن الزيادة آحادًا إلى آخر الحروف؟ ولماذا لم تبدأ بعشرة أو بمائة أو بألف؟ ولماذا لم تكـن هكـذا: ألف (1)، و ب (10)، وجـ (20) وهكذا؟ ولماذا لم تكن هكـذا: 1، 10، 100، 1000 إلخ ...؟ ولماذا ولماذا؟ كل هذا تحكم من واضعيه المصطلحين عليه. صحيح أنه لا مشاحّة في الاصطلاح، ولكن هذا لا يلزم أحدًا" [2].
لذلك يا أحبيتي في الله، لا تبنوا إعجازكم على حديث ضعيف. ثم إن أكبر دليل على ترجيح عدم صحة هذا الحديث أنه ناقص، فراوي الحديث لم يخبرنا ماذا حدث بعد أن اختلط الأمر على اليهود، ماذا كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم، هل سكت عن مثل هذا الأمر، وسكوت النبي يعني موافقته على حسابهم، أم أن النبي أنكر ذلك، لأن الذي يتعمق في شخصية النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، يدرك أنه لا يخشى في الله أحداً وجميع أحاديثه الصحيحة واضحة وبيّنة، أما هذا الحديث فهو غامض ولا يوجد للنبي موقف من هذا الأمر، وهذا دليل على أنه لا يجوز بناء شيء على هذا الحديث، والله تعالى أعلم.
نقد بعض الأمثلة
كل باحث في هذا الحساب يسوق الكثير من الأمثلة وهو يظن بأنه اكتشف معجزة من كتاب الله تعالى بناء على هذا الحساب، وينسى أن عالم الأرقام يحوي الكثير من المصادفات. ولذلك يمكننا الاستشهاد ببعض الأمثلة التي يقدمها أصحاب هذا الحساب لنرى اضطراب المنهج لديهم وعدم وجود منهج ثابت في البحث. ففي إحدى المقالات [3] ، يسوق الباحث عدداً من الأمثلة، لنحلل هذه الأمثلة باختصار ونرى أنها مجرد مصادفات.
المثال 1:
جُمَّل كلمة (أبيض) هو 813 ولو بحثنا عن السور التي وردت فيها مشتقات هذه الكلمة (ابيضت، الأبيض، تبيضّ...) وقمنا بجمع أرقام السور كان الناتج 813 نفس جمَّل الكلمة.
التعليق:
سؤالي هنا لماذا جمعتَ أرقام السور، ولم تجمع أرقام الآيات مثلاً؟ ولماذا أخذت جمَّل كلمة (أبيض) مع العلم أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن بهذه الصيغة بل وردت كلمة (الأبيض)، لماذا لم تحسب جمَّل كلمة (الأبيض) والجواب ببساطة: لأن الباحث لو اتبع منهجاً علمياً فسوف لن يصل إلى أي حقيقة رقمية إعجازية!
والسؤال الثاني: لماذا اختار الباحث هذه الكلمة بالذات وطبق عليها قانون جمع أرقام السور؟ لماذا لم يدعم نظريته بكلمات أخرى يسير فيها على نفس المنهج؟ وهل يستمر الباحث في هذا المنهج بجمع أرقام السور أم أنه يلجأ لمنهج آخر لينضبط معه الحساب؟ لنقرأ المثال التالي.
المثال 2:
جمَّل كلمة (الحديد) هو 57 ورقم سورة الحديد هو 57 في القرآن والوزن الذري للحديد هو 57 تقريباً. ولو أخذنا تكرار كلمة (حديد) في القرآن وقمنا بحساب ترتيب كل كلمة في السورة وجمعنا تراتيب هذه الكلمات كان الناتج 3258 والجذر التربيعي لهذا العدد هو 57 تقريباً.
التعليق:
هنا نتساءل: لماذا غير الباحث منهجه فلم يقم بجمع أرقام السور كما فعل مع كلمة (أبيض)؟ لماذا اكتفى برقم سورة الحديد فقط؟ ولماذا أخذ ترتيب كلمات (الحديد) في القرآن؟ ولماذا جمع هذه التراتيب ثم أخذ الجذر التربيعي؟ لماذا لم يفعل ذلك مع بقية الأمثلة؟ ولماذا لم يطبق هذا المنهج على بقية السور أو بعضها على الأقل؟ وبما أن القرآن يحوي 114 سورة فإنه من الممكن أن يحدث توافق ما بين اسم سورة مع جمَّل هذه السورة وهذا التوافق مصادفة! وبخاصة أننا لو طبقنا هذا القانون على بقية السور لم تنضبط! وهذا يثبت أن العملية بأكملها مصادفة لا أكثر ولا أقل.
المثال 3:
رقم سورة النمل هو 27 وعدد آياتها هو 93، وهذه السورة تبدأ بالحرفين (طس) وقد تكرر حرف الطاء في هذه السورة 27 مرة نفس رقم السورة، وتكرر حرف السين 93 مرة نفس عدد الآيات، وجمل كلمة (نمل) هو 120 ومجموع عدد آيات سورة النمل مع رقم هذه السورة هو 120 وكذلك مجموع حروف (طس) في السورة هو 120 نفس جمل كلمة (نمل).
التعليق:
السؤال: لماذا قام الباحث هنا بجمع عدد الآيات مع رقم السورة بخلاف المثالين السابقين؟؟ ولماذا حذف التعريف من اسم السورة (النمل) فحسب جمّل كلمة (نمل) من دون ال تعريف؟ ألا يدل هذا على أن الباحث يقوم بانتقاء أية أرقام تصادفه، المهم أن تتفق الأرقام مع بعضها؟
كثيراً ما يلجأ الباحث لإدخال نتائج إعجازية في حساب الجمل وهي في الأصل لا علاقة لها بحساب الجمل. فهذه السورة تحوي إعجازاً في تكرار حروف (طس) حيث تكرر حرف (ط) 27 مرة وهذا العدد يساوي رقم سورة النمل، وتكرر حرف (س) في السورة 93 مرة وهذا العدد يساوي عدد آيات سورة النمل.
انظروا معي إلى هذه النتيجة الإعجازية التي لا علاقة لها بحساب الجمل، قام الباحث بإقحام جمَّل كلمة (نمل) وهو 120 مع العلم أن كلمة (نمل) لم ترد في القرآن بهذه الصيغة، بل وردت كلمة (النمل) وكلمة (نملة) أما كلمة (نمل) فلم ترد في القرآن، فلماذا أخذ جمّل هذه الكلمة ولم يأخذ جمَّل كلمة (النمل)؟ هل يجوز له تغيير كلمات القرآن لتنضبط مع حساباته؟ هل هذا هو الإعجاز أن نغير في كلام الله تعالى؟
مثال 4:
وهنا يلجأ الباحث إلى الجمع بين الكلمات عندما لا تنضبط الكلمة بمفردها، فمجموع جمل اسم (موسى) واسم (هارون) هو 377 ومجموع أعداد كلمات الآيات التي ورد فيها أحد هذين الاسمين في سورة القصص فقط هو 377، ولو جمعنا أرقام السور حيث وردت كلمة (هارون) في القرآن كله وجدنا 377 أيضاً.
ولو جمعنا أرقام الآيات التي وردت فيها كلمة (هارون) ولكن هذه المرة اخترنا السور التي تبدأ بحرف الطاء فقط، فيكون مجموع أرقام الآيات هو 377.
التعليق:
والسؤال من جديد: لماذا تجمع هنا عدد كلمات الآيات؟ ولماذا اخترت الآيات الواردة في سورة القصص فقط دون سائر السور؟ مع العلم أن هذين الاسمين أي (موسى وهارون) وردا في العديد من السور؟
ثم لماذا اختار الباحث السور التي فيها اسم (هارون) وجمع أرقامها، أين السور التي ورد فيها اسم (موسى) ما دمنا نحسب جمَّل الكلمتين معاً؟ ببساطة الباحث وضع أمامه هذا الرقم 377 وبدأ يبحث عن أي شيء له علاقة بهذا العدد، أين المنهج العلمي؟
والسؤال الثاني: لماذا عاد الباحث من جديد فاختار السور التي تبدأ بحرف الطاء فقط دون بقية سور القرآن. ولماذا لم يجمع أرقام السور كما فعل سابقاً بل جمع أرقام الآيات هذه المرة؟؟
إنه منهج مضطرب بل شديد الاضطراب! وهكذا لا نكاد نجد مثالين متطابقين من حيث المنهج، بل تارة يجمع أعداد الكلمات ثم يجمع أرقام السور ثم يختار سورة دون سائر السور، ثم يجمع رقم السورة مع عدد الآيات وأحياناً يكتفي برقم السورة وأحياناً يكتفي بترتيب الكلمة داخل الآية، ثم يحصي الكلمة في القرآن كله، وأحياناً يحصيها في سور محددة .... وهكذا من دون أن يكون هنالك أي ثبات في المنهج! وكأن الهم الأول والأخير للباحث هو أن يثبت مشروعية حساب الجمل، لماذا؟ ولماذا لا يبحث عن الإعجاز في القرآن نفسه، والقرآن غزير بالعجائب والأسرار؟
بالله عليكم هل هذا هو الإعجاز الذي نقدمه لغير المسلمين في عصر التكنولوجيا الرقمية ونفتخر به في كتابنا؟ هل نقدم القرآن للغرب في مثل هذه الحسابات المضحكة؟ أين الإعجاز في ذلك؟ وإذا كانت هذه النتائج لم تقنع المسلمين فكيف نقنع بها غير المسلمين؟
إن القرآن يحوي أكثر من سبعين ألف كلمة، فهل نأتي بكلمة مثل كلمة (أبيض) وهي أصلاً لم ترد في القرآن بهذه الصيغة، ونحسب جمّلها ثم نجمع أرقام السور التي وردت فيها مشتقات هذه الكلمة ونقول إن هذا هو الإعجاز العددي؟ ثم نأتي بسورة النمل فنحذف منها التعريف ونجعلها (نمل) وهذه الكلمة لم ترد في القرآن بهذه الصيغة ونقول إن جمل هذه الكلمة أي (نمل) يساوي مجموع عدد آيات السورة ورقمها؟
والله لو قدّم لنا الباحث مئة كلمة وقال إنها جميعاً انضبطت بنفس المقياس أي بجمع أرقام السور دائماً لكان ذلك يدعونا للتأمل والوقوف والمناقشة، أما أن يختار كلمة من بين آلاف الكلمات ويطبق عليها قانوناً ثم يختار كلمة ثانية ويطبق عليها قانوناً آخر ثم يختار كلمة ثالثة ويطبق عليها قانوناً آخر ويقول إن اجتماع هذه الأمثلة هو الإعجاز! إن هذا الكلام لا يجور بحق القرآن لأن القرآن أكبر من ذلك بكثير.
هل هنالك تحريم شرعي لهذا الحساب
أقول أيها الأحبة ليس هنالك محظور شرعي للبحث في حساب الجمّل، ما دام الهدف صحيحاً وهو استخراج معجزة من كتاب الله، فالباحث يقوم بمحاولات كثيرة في تدبره للقرآن، وقد يمضي عمره في المحاولات ولا يصل إلى المعجزة الصحيحة، فهذا له أجر، وإذا ما اجتهد فأصاب فله أجران، نسأل الله تعالى أن نكون من هذا الصنف.
ولكن المشكلة في ضياع الوقت، لأن الحياة قصيرة جداً ونحن كمؤمنين بحاجة لاستغلال كل ثانية في العلم النافع، ويمكنني أن أعلِّمك أخي الحبيب دعاءً وهو أن تدعو بدعاء النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)، وهذا الدعاء رافقني منذ بداية رحلتي مع القرآن وبفضله هداني الله لاكتشاف أشياء كثيرة صحيحة ونافعة، بل ومنّ الله عليّ بمعرفة الحق من الباطل وتمييز الخطأ من الصواب.
ولذلك ينبغي على الباحث أن يتبين صدق هذا الحساب فإذا تبين له أن هذا الحساب غير صحيح فلا يجوز له أبداً أن يقحمه في كتاب الله تعالى، والحقيقة أنني أعتقد بأن معظم الباحثين في هذا الحساب يبحثون فيه بحسن نيّة، ولكنهم يفتقرون إلى الخبرة الرياضية وإدراك احتمالات المصادفة، ولذلك أدعوهم لكي يعيدوا حساباتهم وحبذا لو طبقوا هذا الحساب على أبيات من الشعر العربي أو النصوص الأدبية ليروا حجم التوافقات العددية التي تصادفهم.
وأخيراً
أحبتي في الله! أتوجه بكلمة إلى جميع الأحبة الباحثين في حساب الجمل وأقول: أما آن لكم أن تبعدوا هذه السخافات عن كتاب الله تعالى؟ أما آن لكم أن تدركوا أن هذا الحساب لا أساس له من العلم أو المنطق؟ يا أحبتي أبعدوا هذا الحساب عن القرآن، طبقوه حيث شئتم "إلا كتاب الله" لأننا سنقف جميعاً أمام الله تعالى ونُسأل عن هذا الكتاب، وأقول إن الذي يدفعني لهذا الكلام هو حبي لكتاب الله وحرصي وغيرتي على هذا الكتاب العظيم، يقول تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف: 44].
أسأل الله تعالى أن يشرح صدورنا للحق وأن يبصّر إخواننا من الباحثين بالحق وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع الدعاء.
ــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل
الهوامش
[1] تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير، ص 34 تفسير (الم)، دار المعرفة بيروت 2004.
[2] مقالة للدكتور القرضاوي على موقع www.islamonline.net تاريخ 17/5/2004 .
[3] حساب الجمل والإعجاز العددي للباحث بسام جرار على موقع نون www.islamnoon.com
[4] إشراقات الرقم سبعة 2006 إصدار جائزة دبي الدولية.