|
لغة القرآن أعجزت بلغاء العرب وفصحاءهم ... وها هي اليوم تتجلى من خلال الإعجاز البلاغي لتشهد على أن منزل القرآن هو الله، ولا يمكن لبشر أن يأتي بمثل هذه اللغة الرائعة.... |
في عصرنا الحاضر اعتقد البعض أن عصر الإعجاز البلاغي قد انتهى، ولا يمكن أن تظهر معجزات بلاغية جديدة، لأن العصر الحديث هو عصر العلم والتكنولوجيا.. فلابد أن تكون معجزة القرآن علمية لتتحدى علماء العصر بما برعوا فيه من فلك وطب ونفس وهندسة...
ولكن الذي يتأمل كتاب الله تعالى يرى فيه بحراً زاخراً بالعجائب البلاغية التي تشهد على إعجازه وعدم قدرة البشر أن يأتوا بمثله. ولذلك دعونا نعيش من خلال هذه السلسلة مع بعض الحقائق اللغوية وكيف تتجلى في القرآن الكريم، مما كشفه علماؤنا قديماً وحديثاً.. وقد قمتُ بتبسيط هذه الحقائق لتكون قريبة من القلوب والعقول.
زوجة وامرأة
في قصة سيدنا زكريا عندما خاطبه ربه مبشراً إياه بالولد استخدم كلمة (امرأة) قال تعالى على لسان زكريا عليه السلام: ( قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) [مريم: 8]. فالمرأة هنا لا تنجب، ولكن وبعدما رزق بسيدنا يحيى... هل استخدم كلمة (امرأة) أم كلمة أخرى؟
قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) [الأنبياء:90]، في هذه الحالة وبعدما رزق بالولد وحقق مفهوم الزواج وغايته.. استعمل القرآن كلمة (زَوْجَهُ) لأن الزوجة تعني الأسرة والتكاثر والأولاد... هذه الدقة لا يمكن أن تأتي بالمصادفة أو من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم.. بل هي تشهد على صدق هذا الكتاب العظيم.
الله هو الذي يحيي ويميت
قال تعالى على لسان سيدنا إبراهيم: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) [الشعراء: 78-81]. استعمل كلمة (هو) مع الهداية (فَهُوَ يَهْدِينِ) والطعام والشراب (هُوَ يُطْعِمُنِي) وكذلك استخدم كلمة (هو) مع الشفاء (فَهُوَ يَشْفِينِ)، للتأكيد على أن الله هو من يطعم ويسقي ويشفي ويهدي.. لأن البعض قد ينكر ذلك ويعتقد أن الطبيب هو الذي يشفي فاستعمل كلمة (هو) للتأكيد على أن الله هو الذي يشفي.
ولكن عندما جاء الحديث عن الحياة والموت لم يستعمل كلمة (هو) وقال (وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ) تأملوا الآية ليس فيها (هو)، لماذا؟ لأنه لا حاجة للتأكيد بأن الله هو الذي يحيي أو يميت.. فلا أحد يستطيع أن يدعي القدرة على الإحياء أو الإماتة.. بل الكل يعلم أن الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لو كان هذا القرآن من تأليف بشر لتابع السياق إلى آخره باستخدام كلمة (هو) وبشكل مستمر.. ولكنه عند الموت والحياة اختفت كلمة (هو) لأن الجميع يعترف أن الله هو الخالق وهو المحيي..
يعقلون ويعلمون
قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170]. في هذه الحالة فإن الاتباع يحتاج لعقل فقط لذلك قال (يعقلون).
ولكن في آية مشابهة قال: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [المائدة: 104]. هنا الآية تتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه، فهو يدعوهم لما أنزل الله على الرسول من أحكام وشرائع وسنن وحلال وحرام... ولذلك القضية هنا تحتاج لعلم وتدبر ولذلك قال (يعلمون)... سبحان الله!
واو الزمر
آيتان في سورة الزمر متشابهتان ولكن بفارق واو الحال. فالله تعالى يصور لنا حال الكفار عندما يدخلون النار زُمراً أي مجموعات، فيقول: (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 71]. هنا استخدم القرآن كلمة (فُتِحَتْ) بشكل مفاجئ..
ولكن عندما أنبأ القرآن عن حال أهل الجنة إذا دخلوها مجموعات .. قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) [الزمر: 73]. وهنا يستخدم القرآن كلمة (وَ فُتِحَتْ) مع واو الحال لتوحي للقارئ وكأن حال أبواب الجنة أنها مفتوحة بشكل دائم.. فما السر؟
إن أبواب النار مؤصدة عليهم أي مغلقة يقول تعالى: (عليهم نار مؤصدة) فهي تفتح بشكل مفاجئ لدخول الكفار ثم تغلق، لذلك لا داعي لذكر الواو!
بينما أبواب الجنة فهي مفتوحة بشكل دائم قال تعالى: (مفتحة لهم الأبواب) ولذلك تطلبت واو الحال لتصف لنا حال الجنة وأبوابها المفتحة، تأملوا هذه الدقة على مستوى الحرف.. فسبحان الله!
ولم يجعل له عوجاً
عندما وصف الله حال الجبال يوم القيامة قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) [طه: 105-107]. استخدم هنا (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا) وهذا أمر منطقي، فبعد أن يدمر الله تعالى الجبال ويجعلها مستوية لا يمكن أن نرى فيها أي عوج أو ارتفاعات أو وديان...
ولكن عندما وصف الله كتابه الكريم تغيرت الصيغة ليقول: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) [الكهف: 1]، وهنا نلاحظ أن الله تعالى لم يقل (فيه عوجاً) بل قال: (له عوجاً) ليدلنا على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون فيه عوج بذاته، وكذلك لا يتطرق إليه العوج من خارجه (من خلال التحريف). فهو سليم من العوج في الماضي وفي المستقبل ولا يمكن أن يحدث له هذا العوج بتحريف أو تبديل أو تغيير.. فاستخدم كلمة (له) وهي أقوى بكثير من كلمة (فيه).. فسبحان الله!
لا يشعرون .. لا يعلمون
عندما تحدث الله عن المنافقين أخبر بأنهم مفسدون في الأرض ولكن لا يشعرون، لأن الإنسان قد يسرق ويقتل ويزني ويظلم... ويفعل الكثير من الأشياء السيئة ولكنه لا يشعر بأنه على خطأ، ولذلك استخدم القرآن كلمة (لا يشعرون).. قال تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة: 12]. فكثير من المفسدين في الأرض يعتقد أنه على صواب ولا يشعر بأنه على خطأ فادح.
ولكن عندما أنبأ القرآن عن المنافقين وأنهم سفهاء جهال.. استخدم كلمة (لا يعلمون) لأن السفاهة هي نوع من أنواع الجهل، ولذلك هذا يناسبه كلمة (لا يعلمون).. ولذلك قال تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ) [البقرة: 13]، فالإنسان السفيه يكون عادة محدود التفكير ومعلوماته قليلة في مختلف المجالات، ومثل هذا الإنسان لا يعترف بأنه سفيه أو جاهل، بل يدعي أنه على علم، وبالتالي جاءت كلمة (يعلمون) لتناسب هذه الحال.. فسبحان الله!
ساحر وسحار
في قصة فرعون وموسى تتجلى معجزة بلاغية رائعة في تعدد الألفاظ. فعندما ألقى موسى عصاه فتحولت إلى ثعبان، وأخرج يده فإذا هي تشع نوراً، كيف صور القرآن رد فعل حاشية فرعون؟ قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) [الأعراف: 109-112]. لاحظوا معي أن المتحدث هنا هو الملأ أي حاشية فرعون، (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ).
ولكن في موضع آخر كان رد الفعل مختلفاً، يقول تعالى: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) [الشعراء: 34-37]. هنا المتحدث هو فرعون (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)، فهو يؤكد أن موسى عليه السلام هو ساحر.. فأخبروه بأنهم سيحضروا له كل سحار، وكلمة (سَحَّارٍ) ضيغة مبالغة أي متمرس وخبير في السحر.
أي أن حاشية فرعون (الملأ) عندما أخبروا من حولهم أن موسى هو ساحر عليم، قال المحيطون بهم سوف نحضر لكم كل ساحر عليم.
ولكن عندما طلب فرعون من حاشيته (الملأ) المشورة قال هؤلاء المنافقين إنهم سوف يأتوه بكل (سحار عليم)، كنوع من إرضاء فرعون وزيادة في النفاق والفسق. فإذا كان موسى ساحراً فسوف نحضر له كل سحار عليم، أي سنحضر من يفوقه في السحر.
في النص الأول استخدم كلمة (وَأَرْسِلْ) وهي كلمة تعني إرسال خبر لهؤلاء السحرة ليحضروا، ولكن في النص الثاني استخدم كلمة (وَابْعَثْ)، وهذه كلمة أقوى من (أرسل) أي المطلوب هنا مزيد من الإثارة والتأكيد على ضرورة وجود كل سحار عليم، ولذلك جاءت كلمة (سحار) لتناسب كلمة (ابعث).
فتأملوا معي هذه الدقة اللغوية الفائقة... ففي كل حرف وفي كل كلمة هناك معجزة تتجلى بشكل رائع تأتي اليوم لتقول إن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عند بشر، وهو كلام القائل: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: 6].
ــــــــــــ
بقلم عبد الدائم الكحيل